حلب 2024- هيئة تحرير الشام تفرض واقعًا جديدًا وسط تحولات إقليمية
المؤلف: رامي الخليفة العلي11.01.2025

في عام 2016، كانت حلب ساحة معقدة لصراعات متعددة الأطراف، متشابكة بشكل وثيق مع المصالح الإقليمية والدولية المتضاربة، حيث شاركت قوى عديدة في صراع محموم لتشكيل مستقبل هذه المدينة العريقة، التي كانت ذات يوم القلب النابض بالتجارة والثقافة في الأراضي السورية. في ذلك العام المشؤوم، انسحبت فصائل المعارضة السورية المسلحة من الأحياء الشرقية لمدينة حلب، وذلك بعد حملات عسكرية قاسية ومستمرة لما يقارب الثلاث سنوات العجاف، والتي شهدت خلالها المدينة دمارًا هائلًا وتهجيرًا قسريًا للسكان المدنيين. واليوم، تعود هيئة تحرير الشام، التي تصنفها العديد من الدول والمنظمات الدولية كمنظمة إرهابية محظورة، والفصائل المتحالفة معها للسيطرة التامة على المدينة المنكوبة بشكل كامل، مما يجعل عودة قوات الحكومة السورية النظامية إلى حلب أمرًا في غاية الصعوبة في ظل التغيرات الجيوسياسية الراهنة. هذه المرة تبدو مختلفة تمامًا عن المرات السابقة؛ فسيطرة هيئة تحرير الشام ليست مجرد احتلال عابر لأحياء معزولة ومشتتة، بل هي بسط نفوذ وهيمنة كاملة وشاملة على المدينة الاستراتيجية، مدعومة بتحولات عسكرية واستراتيجية كبيرة وملموسة على أرض الواقع. بينما كانت المعارضة في السابق تعتمد بشكل أساسي على حرب العصابات غير النظامية والتخندق والدفاع من داخل الأحياء المكتظة بالسكان، فإن هيئة تحرير الشام تعمل اليوم كجيش نظامي متكامل الأركان، من خلال بناء خطوط دفاعية متينة خارج المدينة، مما يعكس تحولًا جوهريًا وكبيرًا في تكتيكات المواجهة وطبيعة المعركة الدائرة. هذا التحول الملحوظ يضع الحكومة السورية أمام تحدٍ جسيم وكبير، خاصة مع تراجع قدراتها العسكرية المحدودة وتقلص الدعم العسكري الروسي الملحوظ. روسيا، التي كانت تشكل حجر الزاوية والدعامة الأساسية للحكومة السورية، أصبحت منشغلة الآن بحرب ضروس وطاحنة في أوكرانيا المجاورة، وهو ما أدى إلى استنزاف مواردها العسكرية والاقتصادية بشكل كبير، مما أضعف دورها المحوري في سوريا بشكل ملحوظ. هناك بعض الآراء والتكهنات التي تذهب إلى أن روسيا ربما تكون قد توصلت إلى تفاهمات سرية من تحت الطاولة مع تركيا بهدف إضعاف وجود بعض الأطراف الدولية الأخرى التي تنافسها على النفوذ في سوريا. هذا التراجع الروسي قد انعكس بشكل واضح وجلي على مستوى الدعم الجوي واللوجستي الذي كانت تقدمه بسخاء للحكومة السورية، حيث قامت بسحب معظم قواتها الجوية وأبقت على عدد محدود من الطائرات المقاتلة، وهو عدد غير كاف لتغطية المساحات الشاسعة التي تسيطر عليها فصائل المعارضة المسلحة. هذا الانشغال الروسي المفاجئ يفتح المجال واسعًا أمام تحولات دراماتيكية جديدة في المعادلة الميدانية المعقدة، ويعطي للمعارضة فرصة ذهبية لتعزيز مواقعها الاستراتيجية دون الخوف من الضربات الجوية المكثفة التي كانت تتعرض لها في السابق. من جهة أخرى، نجد أن الحليف الآخر للنظام السوري، يواجه أيضًا تحديات جمة وكبيرة. فهو غارق في صراعات مباشرة وغير مباشرة مع إسرائيل، حيث يتعرض أتباعه ووكلائه في سوريا لضربات إسرائيلية متكررة، مما أضعف من قوتهم وجعلهم أقل فعالية على الأرض. إضافة إلى ذلك، فقد تراجع الدعم اللوجستي والعسكري الذي كان يقدمه هذا الحليف للنظام السوري بسبب الضغوط الداخلية المتزايدة والتحديات الاقتصادية والسياسية المتفاقمة، مما يجعل قدرته على مساعدة الحكومة السورية محدودة للغاية. أمام هذه التغيرات المتسارعة والمتقلبة، يبدو أن الحكومة السورية باتت في موقف دفاعي بحت، حيث تسعى جاهدة بكل ما أوتيت من قوة لبناء خطوط دفاعية محكمة حول المناطق الاستراتيجية الهامة مثل حمص، التي تربط الساحل بدمشق، بهدف ضمان عدم تقدم الفصائل المعارضة نحو هذه المناطق الحساسة والحيوية. في المقابل، تسعى هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها إلى ترسيخ وتثبيت سيطرتها على المناطق التي استولت عليها مؤخرًا، دون التوسع أكثر من ذلك، وذلك تجنبًا لاستنزاف قواها في مواجهة مفتوحة شاملة قد لا تكون في صالحها على المدى الطويل. المشهد العام في حلب وسوريا عمومًا يعكس تحولات عميقة وجذرية في موازين القوى، حيث أصبح الداعمون الرئيسيون للحكومة السورية منشغلين بقضاياهم الداخلية والخارجية الخاصة، مما أضعف بشكل كبير من قدرة الحكومة السورية على استعادة المناطق التي فقدتها خلال سنوات الصراع الطويلة. هذا الواقع الجديد جعل الرئيس التركي أكبر المستفيدين من الوضع الحالي المعقد، حيث تمكن ببراعة من تعزيز نفوذه الإقليمي والاستفادة القصوى من تراجع الدعم الروسي للحكومة السورية. يبقى الوضع في سوريا مفتوحًا على عدة احتمالات وسيناريوهات، لكن من المؤكد أن كلا الطرفين؛ الحكومة السورية والمعارضة المسلحة، بحاجة ماسة إلى الاستعداد لمزيد من التقلبات والتطورات الدراماتيكية في ظل غياب حل سياسي شامل وجامع للأزمة السورية المستمرة.
